يوسف نويهض المربّي وحامل الرسالة

بقلم ناديا الجردي نويهض (جريدة النهار)

   مرحى للذّين سجّلوا مواقف ومآثر حميدة، وغلّفوا رسالاتهم الخيّرة بشغاف القلب وضياء العين، فتركوا في كتاب تاريخ الوطن صفحات رائعات تذكّر أنّهم كانوا أقوى وأبعد رسوخًا من الأيّام.

   يوسف نويهض، الذي رحل أمس، كان واحدًا من أصحاب هذه الرسالات، كان علمًا في الأدب وفي التربية. هذا المربّي الكبير سما فوق كلّ اعتبار، ومذهب، وهويّة، فتح قلبه لكلّ لبنان، وضمّ تحت جناحيه جميع أبنائه، لا تفرقة، ولا تمييز.

   كان لبنان العلم في أعماقه والصميم، فسعى لخدمته بكلّ جوارحه، ومعه بدأ رحلة العمر أستاذًا ومربّيًا. أربعون عامًا من العطاء، والتبتّل في محراب العلم من دون منّة، ومن دون التفكير في أخذ.

   يوسف نويهض أيّة مكافأة وأي وسام يليق به؟ وكلّ الاوسمة بين يديه. ليس هناك أوسمة تعادل اعتزازه بأبنائه، الذين ارتشفوا من مَعين أدبه وفكره. يكفيه أن يرى نفسه، واستمراريّته من خلالهم. إنّهم الوعد الذي عاش من أجله، وقد عاش ورأى العديد منهم في المراكز الرفيعة، فكانت فرحته بهم كبيرة جدًّا.

   يوسف نويهض مجموعة من الصفات الحميدة، والمناقبيّة التي قلّما اجتمعت لإنسان.

   صوره في البال، ولا أجمل، وذكراه وما أعذب.

   وجه الإنسان، والمعلّم، والمربّي، والصديق، والأخ، يطلّ عليك عبر مؤلّفاته، وكتاباته، وسيرته، ومواقفه المشرّفة. ويوافيك من خلال طلّابه الكثر، الذين يحملون أفكاره، ويتحلّون بأخلاقيّاته وقيمه.

   لقد كان البنّاء الحاذق الذي عرف كيف يقصّب الحجارة من مقلع الحياة، فيصقلها ويهذّبها ليبني منها حضارة وطن وشعب.

   كانت رسالة التعليم عنده رسالة تحضير وتكوين، وعناوين تجرّد وتغيير، كان يريدها ثورة على الجمود والقيود، ويعتبرها رسالة التزام إعداد الإنسان السليم، ومحوره الإنسان الذي بين يديه. همّه أن يعطيه ويشاركه بما أفيض عليه من علم ومعرفة وحكمة ليجعل منه الإنسان المسؤول والوطنيّ الصادق الغيور.

   ومرارًا كان يقول لنا: "الإنسان وطن صغير فإذا نحن أحسنّا إعداده، ضمنّا سلامة الوطن الكبير".

   زاول التدريس في معهد البعثة العلمانيّة الفرنسيّة الليسيه مدّة أربعين عامًا، ونال أوسمة منها: وسام المعارف المذهّب، من وزارة التربية الفرنسيّة عام 1950، ووسام العمل الفرنسيّ الرفيع عام 1960.

   كتب في صحف ومجلّات لبنانيّة وعربيّة، وله مؤلّفات عديدة من أهمّها:

- "الكنز الثمين" الذي طبع في فرنسا عام 1935.

- رحلة " لامارتين" إلى الشرق.

- تاريخ حضارة وعادات فنزويلا.

- الأدب الأسبانيّ وعلاقته بالأدب العربيّ.

- مذكّرات مربٍّ.

- وقائع الأحداث اللبنانيّة.

   يوسف نويهض إرث كبير، أعمال ومنجزات في كلّ اتّجاه. مَثَله كمثل الحبّ في الأرض، والدفء في الشمس، كان راية ضوء، مساحة حبّ، غمرة فرح في وسط الأحزان التي تلفّ أرجاء الوطن.

سيرته هذا الإرث من العمل الصالح، ولا بأس لو أشرنا الى وقائع.

   ولد يوسف نويهض في بلدة رأس المتن 1908، تعلّم في مدرسة دير الحرف المتاخمة لبلدته، وانتقل إلى الليسيه في بيروت 1925. وتخرّج منها في 1931، سافر إلى فرنسا 1932، أمضى ثلاث سنوات في السوربون، وعاد الى لبنان، بشهادة الليسانس في الأدب الفرنسيّ 1935. عمل في المؤسّسات التربويّة والثقافيّة والاجتماعيّة والنقابيّة، فهو عضو مؤسّس في نقابة المعلّمين، وعضو مؤسّس في لجنة دار الطائفة الدرزيّة.

   يوسف نويهض ينبوع محبّة وعطاء، لم تَشبه شائبة دنيويّة زائلة، ولم يعايش زيف الأمور، شرّع أبواب فكره على مختلف الثقافات، لكنّه لم يدع واحدة منها تقتلعه من جذوره وإيمانه.

   كان نموذجًا رائعًا للّبنانيّ الجبليّ الأصيل الطيّب، يعتزّ بانتمائه إلى الجبل وأبنائه، وكان محبًّا للناس، كلّ الناس، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، وهو بينهم في محيطه، فيساهم في سرّائهم وضرّائهم، يواسيهم بالكلمة الطيّبة واللّفتة الطيّبة، فيما هو أحوجهم إلى المواساة، بعد أن فقد ولده عماد شهيدا من أجل كرامة الوطن، وفقد ابنه الثاني جهاد في ريعانه، فهدّت المصيبتان قلبه والجسد، لكنّه صبر صبرًا جميلًا إلى أن وافته المنيّة، فانطفأت الشعلة، وغاب يوسف نويهض الجسد، لتبقى المبادىء والقيم التي رسّخها.                                       

                                      ناديا الجردي نويهض